شاءت الأقدار أن أزور الولايات المتحدة الأمريكية في مثل هذه الأيام المباركة من شهر رمضان الكريم، عندما سافرت العام الماضي في مهمة عمل إلى مدينة بوسطن أو كما يحلو للأمريكيين بتسميتها بـ"مدينة العلم" حيث تعد إحدى المدن التي تُفرّغ صناع القرار والعلماء فضلاً عن وجود عدد كبير من الدارسين العرب بها.
وعلى العكس ما كان يتردد حول الصعوبات التي تضعها السفارات الأمريكية على تأشيرات دخول أو ما يعرف بـ"الفيزا" وخاصة القادمين من الدول العربية أو بعض دول العالم الإسلامي والشرق الأوسط باستثناء إسرائيل بالطبع؛ فإنه من الوهلة الأولى شاء الله تعالى أن يتيسر الأمر في الحصول على هذه التأشيرة، ربما لأنها كانت لمهمة عمل أو ربما رغبة من الحكومة الأمريكية لتحسين صورتها لدى العالم العربي بعد أن شوهت إدارة البيت الأبيض هذه الصورة عقب أحداث سبتمبر وإتباع نظرية "من ليس معي فهو ضدي".
وعندما هممت بالسفر إلى بلاد يحلم الكثيرون بزياراتها، ثم سرعان ما يكتشفون لاحقًا أنها سراب، وأن هناك وهمًا اسمه أمريكا! ..
على أية حال فقد ظللت وأنا في الطريق إلى بلاد - ما تطلق على نفسها "بلاد الحرية"- أسرد في ذاكرتي إجراءات التفتيش، وما أسمع به في وكالات الأنباء وما تردده وتعبر عنه الفضائيات، بالرغم من أن حقائبي لم يكن بها سوى ملابسي وليس أكثر، فلم تتعداها إلى غيرها من الممنوعات والمحظورات التي نالت جهات الأمن بجميع مطارات العالم بعد أحداث واشنطن ونيويورك.
كان في صحبتي ثلاثة من الأصدقاء عند دخولنا إلى مطار بوسطن، قلت في نفسي: هذه هي البداية.. طابور طويل من الأمريكيين والأوروبيين وآخر من جنسيات أخرى، قلت في نفسي: لقد ظهرت أولى بدايات العنصرية.. الطابور الأول لتخليص الجوازات يكاد يسير بسرعة الصاروخ، بينما الثاني بطئ كما لو كان يسير بخطوات السلحفاة.
المهم تجاوزنا هذا الخط، وإذا بشخصين – ماء شاء الله – قوة بنيان وطول فاره، مسلحيْن بأحدث الأجهزة الشخصية، أي ما خف حمله، وتعاظمت فاعليته. استوقفنا الضابطان، سألانا عن المكان الذي سنقيم فيه في بوسطن، ذكرنا له أنها مهمة عمل، وهناك من الأمريكيين من ينتظرنا في الخارج، وكالعادة لم يصدق روايتنا حتى اتصل بجهة العمل التي أبلغته صحة ما ذكرناه، فسمح لنا بالمرور.
وفي المرحلة الأخيرة للخروج من المطار يأتي دور التفتيش، وما أدراك ما طبيعته كلاب بوليسية، أفراد أمن لا يقلون قوة وطولاً عن العنصرين السابقين، لاحظنا ارتدائهم قفازات كانت لها دلالتها، إذ إن من يشتبه فيه يقومون بتفتيشه تفتيشًا دقيقًا، ثم اكتشاف أن الجميع يتم تفتيشه تفتيشًا دقيقًا، خاصة إذا كان إيرانيًا أو سوريًا، وبالطبع قد يمنع من الدخول أصلاً إذا كان فلسطينيًا.
وجدنا ضابطة وأمامها أحد الفارين إلى مدينة العلم، ويبدو كأنه شاميّ، فلاحظنا التفتيش (على أصله)، قراءة كل سطر بداخل حقيبته، وتفتيشًا في كل صغيرة وكبيرة في حوزته، قلنا سريعًا: "أجهزة الأمن في دولنا نعمة!".
وعندما جاء الدور علينا، وفي لحظة سريعة وفي سؤال:ماذا معك؟ لا شئ.. تفضل..
هكذا بكل بساطة تجاوزنا هذا الخط بلا تفتيش على الرغم من أن لون بشرتنا يدل على أننا حسب تعبيرهم شرق أوسطيين، فهل كانت هذه ثغرة أم ثقة في أشكالنا؟ الله أعلم..!
خرجنا من المطار، وفي طريقنا إلى الفندق، وقد كان وقت أذان المغرب، وأثناء إنهاء إجراءات التسكين، قابلتنا إحدى الموظفات، تعمل في سرعة لافته، بسؤالها عن سبب هذه السرعة، هل هذه طبيعة الأمريكيين، وإذا بها تخبرنا، لست أمريكية أنا مغربية، وأحاول أن أنهي مهامي لألحق بأسرتي لتناول وجبة الإفطار، حيث إنني صائمة.. قلنا الحمد لله.. هذه بداية الإسلام في أمريكا، بالرغم من ملابسها التي لم تكن تعكس أي سمت إسلامي، ومع ذلك حمدنا الله أنها صائمة.
استغلينا وجود هذه المغربية في الفندق وأبلغناها أن تطلب من إدارة الفندق تغيير مواعيد الأكل، تبعًا لميقات الإفطار في مدينة بوسطن، طلبنا أن يعد إفطارنا في هذه الساعة، وجاء الرد سريعًا من الإدارة، وكأن لسان حالهم ينطق: نحن نعرف أن هذه الأيام هي جدًا مهمة للمسلمين، حيث يصومون فيها.
هذا ما أكدته في اليوم التالي المرشدة الأمريكية، عندنا أحضرت إلينا توقيت الصلاة ومواعيد الإفطار والإمساك في شهر رمضان بأمريكا، فكانت فعلتها هذه تعكس النتيجة التي توصلنا إليها سابقًا، ويبدو أن الأمريكيين هنا في بوسطن يعرفون الكثير عن الإسلام، ربما يكونون أكثر من معرفة المسلمين في ديارهم بإسلامهم.
لاحظنا في مرافقينا الأمريكيين دقةً في المواعيد، وفاءً بالعهود، مراعاةً لخصوصية شهر رمضان الكريم، تذكرنا سريعًا مقولة الشيخ محمد عبده عندما زار باريس: "لقد رأيت هناك مسلمين بلا إسلام"..
وبالرغم صقيع الطقس وهطول الأمطار المتواصل، أردنا السير في شوارع المدينة، علنا نكشف جديدًا فيها، بالرغم من أنها لم تضف كثيرًا عما كنا نتخيله ونحلم به أو كما يحلم به العامة بأن أمريكا لا مثيل لها في العالم، سرنا في شوارع بوسطن، وإذا بالجميع يلتفت إلينا، وكأنهم يشيرون إلينا، وتكاد تنطلق أعينهم قبل ألسنتهم من أنتم؟ وما صحة ما نسمعه عنكم؟.
وفي إحدى اللقاءات التي جمعتنا بنخب المدينة وشخصياتها العلمية، تم طرح التساؤل -وإن كان بشكل مختلف-: لماذا يكره العرب أمريكا؟ ولماذا يعادينا المسلمون؟ إضافة إلى تساؤل آخر طرحة حديث أذاعته إحدى الفضائيات العربية في وقته وكان لأسامة بن لادن، وصف فيه الرئيس الأمريكي بوش بفرعون العصر.
كان هذا الوصف هو شغلهم الشاغل في هذا الملتقى لماذا يصف بن لادن بوش بهذا الوصف؟ وهل الفرعون سيئ حتى يجعله ابن لادن في مساواة بوش (الأمريكيون مهووسون بالحضارة الفرعونية القديمة)، خاصة وأن فرعون في نظرهم نموذج يحتذى في القوة والمدنية، ولم تكن الإجابات مقنعة بالنسبة لهم، إذ ترسخت في أذهانهم مفاهيم معينة، إلا أنها حركت في أذهانهم قليلاً من التفكير والبحث في التاريخ القديم، وربطة بالتراث الإسلامي.
هذه الحالة المعرفية عن الإسلام في بوسطن تقابلها حالة بشكل أكبر في نيويورك، حيث تنتشر المراكز الإسلامية، أبرزها "كير" والذي يؤكد القائمون عليه أنه يبذل جهودًا مضنية لتأكيد الصورة الصحيحة للإسلام عند الأمريكيين، وألا تنساق الإدارة إلى محاولات اللوبي الصهيوني للوقيعة بين الحكومة والعرب والمسلمين.
وهنا يفرق معظم القيادات الإسلامية من أصل أمريكي رغبة الرأي العام الأمريكي في القراءة عن الإسلام والاستزادة في معرفته بأن ذلك يعود إلى طيبة الشعب الأمريكي، الذي وقف لاحقًا في مظاهرات معارضًا فيها حكومته لضرب العراق، فضلاً عن ضرورة أن يفرق العرب والمسلمون بين الرأي العام الأمريكي وحكومته التي يسيطر عليها اليمن المتطرف.
وهذه التفرقة تجعل -لاشك- المراكز الإسلامية وخاصة واشنطن ونيويورك في مسؤولية كبيرة في توجيه الجاليات العربية الإسلامية والمسلمين من أصل أمريكي وهم يتعاملون مع الحكومة الأمريكية. لذلك فإن هذه المراكز تقوم بدور في تجمع المسلمين وخاصة في المناسبات الدينية كشهر رمضان المبارك.
ويلاحظ خلال هذه التجمعات الرمضانية مدى الشوق لهذه الجاليات في اللقاء والنيل من فيض وروحانية الشهر الكريم، وخاصة عند صلاة التراويح أو تنظيم موائد الإفطار الرمضانية، وخاصة وأنها المناسبة الأشهر لهم التي يلتقون فيها، والتي تذوب فيها العرقيات والقوميات بعد أن جمعتهم رابطة الدين.
وعموما وأيًا كانت المفاهيم التي ترفعها المراكز الإسلامية بالضرورة التفرقة بين الرأي العام الأمريكي وحكومته؛ فإن المطلوب معرفة الآخر والجلوس معه على قاعدة من الندية والقواسم المشتركة، وربما الفهم هو الذي أصبح يسود الأمريكيين أنفسهم حاليًا هو ضرورة التحاور مع العرب والمسلمين بغية الفهم، وذلك بعيدًا عن عنصرية إدارتهم، ولعل ذلك يكون هو تفسير دهشة الأمريكيين التي كانوا يقابلوننا بها في رمضان ورغبتهم في التحاور معنا.
والذي يعكس لنا هذا التصور هي الطريقة التي خرجنا بها مغادرين الولايات المتحدة عندما غادرنا بسلام آمنين، باستثناء تفتيشات كانت تلفت الانتباه لكافة المسافرين باستثناء الأمريكيين والأوربيين، الأمر الذي دفعنا للتساؤل: هل هذا التناقض في تركيبة هذا الشعب وإدارته ثغرة أم مجاملة؟!
المصدر: الإسلام اليوم